سورة آل عمران - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله: {وإن تُوَلُّواْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله}.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد.
قلنا: الجواب من وجهين:
الأول: أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم الثاني: أن نحمله على العموم، ونقول إن من كذب بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمناً بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمناً بشيء منها لآمن بالجميع.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الحسن {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} وهو للمبالغة.
المسألة الثانية: روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى، وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن ذكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: إذا كان قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} في حكم المستقبل، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك؟.
والجواب من وجهين:
الأول: أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته الثاني: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز، كما يقال: النار محرقة، والسم قاتل، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل، فكذا هاهنا لا يصح أن يكون إلا كذلك.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك.
والجواب: ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة، والمراد منه شرح عظم ذنبهم، وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل.
السؤال الثالث: قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين} ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف.
والجواب: الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق.
الصفة الثالثة: قوله: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة وحده {ويقاتلون} بالألف والباقون {وَيَقْتُلُونَ} وهما سواء، لأنهم قد يقاتلون فيقتلون بالقتال، وقد يقتلون ابتداء من غير قتال وقرأ أُبي {وَيَقْتُلُونَ النبيين والذين يَأْمُرُونَ}.
المسألة الثانية: قال الحسن: هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء، وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة، فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إنما دخلت الفاء في قوله: {فَبَشّرْهُم} مع أنه خبران، لأنه في معنى الجزاء والتقدير: من يكفر فبشرهم.
المسألة الثانية: هذا محمول على الاستعارة، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم، والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى: {وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25].
النوع الثاني من الوعيد: قوله: {أولئك الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة}.
اعلم أنه تعالى بيّن بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب.
النوع الثالث من وعيدهم: قوله تعالى: {وَمَا لَهُم مّن ناصرين}.
اعلم أنه تعالى بيّن بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم.


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}
اعلم أنه تعالى لما نبّه على عناد القوم بقوله: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} [آل عمران: 20] بيّن في هذه الآية غاية عنادهم، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون، ويتولون، وذلك يدل على غاية عنادهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} يتناول كلهم، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم، إلا أنه قد دلّ دليل آخر، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول: {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
المسألة الثانية: قوله تعالى: {أوتوا نصيباً من الكتاب} المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق، ومن عند الله.
المسألة الثالثة: ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها: روي عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: «بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم؟» قالوا: عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم دخل مدرسة اليهود، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم: «هلموا إلى التوراة»، فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة: أن علامات بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة، والدلائل الدالة على صحة نبوّته موجودة فيها، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك.
والرواية الرابعة: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى، وذلك لأن دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل، وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون.
أما قوله: {نَصِيباً مّنَ الكتاب} فالمراد منه نصيباً من علم الكتاب، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب، لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه.
أما قوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} ففيه قولان:
القول الأول: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن.
فإن قيل: كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به؟.
قلنا: إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله.
والقول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين: إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه:
الأول: أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني: أنه تعالى عجب رسوله صلى الله عليه وسلم من تمردهم وإعراضهم، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته، ويقرون بحقيته الثالث: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية، وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق.
وأما قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فالمعنى: ليحكم الكتاب بينهم، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور، وقرئ {لِيَحْكُمَ} على البناء للمفعول، قال صاحب الكشاف: وقوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء.
ثم قال: {وَهُم مُّعْرِضُونَ} وفيه وجهان:
الأول: المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم، كأنه قيل: ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تولي علمائهم.
والثاني: أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب، كأنه قيل: لا تظن أنه تولى عن هذه المسألة بل هو معرض عن الكل.
وأما قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} [آل عمران: 24] فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة، ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} قال في هذه الآية: ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، قال الجبائي: وفيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن أهل النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً، ولما استحق الذم، فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل.
وأقول: كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام، وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم.
سلمنا أنه يلزم ذلك، لكن لم قلتم: إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل هاهنا وجوه أُخر الأول: لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: مدة عذابنا سبعة أيام، ومنهم من قال: بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ، لأن عندنا المخطئ في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم، لأنه كافر، والكافر عذابه دائم والثالث: أنهم لما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} فقد استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحاً بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة.
أما قوله تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} فقيل: هو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقيل: هو قولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} وقيل: غرهم قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل.
أما قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وفي الكلام حذف، والتقدير: فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيراً مع كيف لدلالته عليها تقول: كنت أكرمه وهو لم يزرني، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني، واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل: لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية.
أما قوله تعالى: {إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} ولم يقل في يوم، لأن المراد: لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه، قال الفرّاء: اللام لفعل مضمر إذا قلت: جمعوا ليوم الخميس، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلاً وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب، وقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك فيه.
ثم قال: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف، والتقدير: ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب، وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار.
ثم قال: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فلا ينقص من ثواب الطاعات، ولا يزاد على عقاب السيئات.
واعلم أن قوله: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} يستدل به القائلون بالوعيد، ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار، أما الأولون قالوا: لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة، والآية دلّت على أن كل نفس توفى عملها وما كسبت، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة.
وجوابنا: أن هذا من العمومات، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات.
وأما أصحابنا فإنهم يقولون: إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلابد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع، وإما أن يقال: يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبداً مخلداً وهو المطلوب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم؟.
قلنا: هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة، وأيضاً فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر، والمنازع فيه مكابر، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر، وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول: ثواب إيمان لحظة، يسقط كفر سبعين سنة، فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة، ولا شك أنه كلام ظاهر.


{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة، وصحة دين الإسلام، ثم قال لرسوله {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} [آل عمران: 20] ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} [آل عمران: 23] ثم ذكر شدة غرورهم بقوله: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} [آل عمران: 24] ثم ذكر وعيدهم بقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25] أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلماً نبيّه كيف يمجّد ويعظم ويدعو ويطلب {قُلِ اللهم مالك الملك} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلف النحويون في قوله: {اللهم} فقال الخليل وسيبويه {اللهم} معناه: يا الله، والميم المشددة عوض من يا، وقال الفرّاء: كان أصلها، يا الله أم بخير: فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء، وحذفوا الهمزة من: أم، فصار {اللهم} ونظيره قول العرب: هلم، والأصل: هل، فضم: أم إليها، حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه:
الأول: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال: اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف، لأن التقدير: يا الله أمنا واغفر لنا، ولم نجد أحداً يذكر هذا الحرف العاطف والثاني: وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال، لجاز أن يتكلم به على أصله، فيقال (الله أم) كما يقال (ويلم) ثم يتكلم به على الأصل فيقال (وَيْلٌ أُمُّهُ) الثالث: لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفاً، فكان يجوز أن يقال: يا اللّهم، فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال: يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن هذه الوجوه، فقال: أما الأول فضعيف، لأن قوله (يا الله أم) معناه: يا الله اقصد، فلو قال: واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما: قوله: {أمنا} والثاني: قوله: {واغفر لَنَا} [البقرة: 286] أما إذا حذفنا العطف صار قوله: اغفر لنا تفسيراً لقوله: أمنا. فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد، ونظائره كثيرة في القرآن، وأما الثاني فضعيف أيضاً، لأن أصله عندنا أن يقال: يا الله أمنا. ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك، وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله: ما أكرمه، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا هاهنا، وأما الثالث: فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقالّ: يا اللّهم وأنشد الفرّاء:
وأما عليك أن تقولي كلما *** سبحت أو صليت يا اللّهما
وقول البصريين: إن هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن، وأما قوله: كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} [يوسف: 46] فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف، ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه:
الأول: أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى، وهذا غير جائز ألبتة، فإنه لا يقال ألبتة (الله يا) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني: لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء، حتى يقال: زيدم وبكرم، كما يجوز أن يقال: يا زيد ويا بكر والثالث: لو كان الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع: لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.
المسألة الثانية: {مالك الملك} في نصبه وجهان الأول: وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء، وكذلك قوله: {قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والأرض} [الزمر: 46] ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله: {اللهم} لأن قولنا {اللهم} مجموع الاسم والحرف، وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني: وهو قول المبرد والزجاج أن {مالك} وصف للمنادى المفرد، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه (يا) ولا يمتنع الصفة مع الميم، كما لا يمتنع مع الياء.
المسألة الثالثة: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، وهم أعز وأمنع من ذلك، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخبره، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبّر وكبر المسلمون، وقال عليه الصلاة والسلام: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب» ثم ضرب الثانية، فقال: «أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم».
ثم ضرب الثالثة فقال: «أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا» فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم، وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم.
المسألة الرابعة: {الملك} هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله: {مالك الملك} معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه، قال صاحب الكشاف {مالك الملك} أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه {مالك الملك} على الإطلاق، فصل بعد ذلك وذكر أنواعاً خمسة:
النوع الأول: قوله تعالى: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} وذكروا فيه وجوهاً الأول: المراد منه: ملك النبوّة والرسالة، كما قال تعالى: {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم، وأن يعتقد أنه هو الحق، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولاً فحكى الله عنهم قولهم: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 94] وقال الله تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} [الأنعام: 9] وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولاً من البشر، إلا أنهم كانوا يقولون: إن محمداً فقير يتيم، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله: {أم يحْسُدونَ الناس على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 37].
وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 12] أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء، فقال: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ}.
فإن قيل: فإذا حملتم قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ} على إيتاء ملك النبوّة، وجب أن تحملوا قوله: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً، ومعلوم أن ذلك لا يجوز.
قلنا: الجواب من وجهين:
الأول: أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل، فإذا أخرجها الله من نسله، وشرَّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لابد وأن تكون في بني إسرائيل، فلما شرف الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بها، صح أن يقال: إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب.
والجواب الثاني: أن يكون المراد من قوله: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه، ونظيره قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط، وقال الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] وأولئك الأنبياء قالوا: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاءَ الله} [الأعراف: 89] مع أنهم ما كانوا فيها قط، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسّر قوله تعالى: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ} بملك النبوة.
القول الثاني: أن يكون المراد من الملك، ما يسمى ملكاً في العرف، وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها: تكثير المال والجاه، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع، والحرث، والنسل، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيباً عند الناس، مقبول القول، مطاعاً في الخلق والثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته، وتحت أمره ونهيه والثالث: أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد، قدر على قهر ذلك المنازع، وعلى غلبته، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى، أما تكثير المال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد، والعناء العظيم قليل من المال، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته، وأما الجاه فالأمر أظهر، فإنا رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظماً في العقائد مهيباً في القلوب، ينقاد له الصغير والكبير، ويتواضع له القاصي والداني، وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده، وأما القسم الثالث، وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ}.
واعلم أن للمعتزلة هاهنا بحثا قال الكعبي قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} ليس على سبيل المختارية، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وقال في حق العبد الصالح {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [البقرة: 247] فجعله سبباً للملك، وقال الجبائي: هذا الحكم مختص بملوك العدل، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه، ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك، فأما الظالمون فلا، قالوا: ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا هاهنا، قالوا: وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه: منها بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدر والحواس، ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال، ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى، لأنه وقع عن أمره، وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب.
واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم، إما أن يقال: إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب، أو إنما حصل بالأسباب الربانية، والأول: نفي للصانع والثاني: باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى، وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس، وتميل إليه القلوب، ويكون النصر قريناً له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى، ولذلك قال حكيم الشعراء:
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني *** بأجل أسباب السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى *** ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه *** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والقول الثاني: أن قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء} محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوّة، وملك العلم، وملك العقل، والصحة والأخلاق الحسنة، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز.
وأما قوله تعالى: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} فاعلم أن العزة قد تكون في الدين، وقد تكون في الدنيا، أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] إذا ثبت هذا فنقول: لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان، وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر، فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد، لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به، ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه، ومعلوم أن ذلك باطل قطعاً، فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله، والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله، وهذا وجه قوي في المسألة، قال القاضي: الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين، وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لابد وأن يكون مشتملاً على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة، وأيضاً فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة، وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب، وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق.
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلهية ولخرج عن كونه إلها للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلهية نفسه عن الزوال فأما العبد، فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه، فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم.
أما قوله: {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} فقال الجبائي في تفسيره: إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحداً من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم، لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة، إما بالثواب، وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا أنهما لما كانا يستعقبان نفعاً عظيماً لا جرم لا يقال فيهما: إنهما تعذيب، قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} [المائدة: 54].
إذا عرفت هذا فنقول: إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة، ومنها بأن يجعلهم خولاً لأهل دينه، ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة، ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة، ويذل البعض بالكفر والضلالة، وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه:
الأول: وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لابد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل، لأن أحداً لا يختار الكفر لنفسه، بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل، علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد الثاني: وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال: يفعله العبد ابتداء، والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال، فبقي أن يقال: تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه الثالث: ما بينا أن الفعل لابد فيه من الداعي والمرجح، وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازاً، وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالاً، فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى.
أما قوله تعالى: {بِيَدِكَ الخير}.
فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة، والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم، فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات، وأيضاً فقوله: {بِيَدِكَ الخير} يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك، كما أن قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرين: 6] أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه، وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه، إذا عرفت هذا فنقول: أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد، وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال: كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر، ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير، ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائداً في الخيرية على الله تعالى، وفي الفضيلة والكمال، وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى.
فإن قيل: فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال: {بِيَدِكَ الخير} كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله.
والجواب: أن قوله: {بِيَدِكَ الخير} يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره، وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي: كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه وهداهم إليه لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى، ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد، وذلك على خلاف هذا النص.
أما قوله: {إِنَّكَ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال.
أما قوله تعالى: {تُولِجُ اليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي اليل} فيه وجهان الأول: أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلاً في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني: أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر، والأول أقرب إلى اللفظ، لأنه إذا كان النهار طويلاً فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلاً في الليل.
وأما قوله: {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة والكسائي {الميت} بالتشديد، والباقون بالتخفيف، وهما لغتان بمعنى واحد، قال المبرد: أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا:
إنما الميت ميت الأحياء ***
وهو مثل قوله: هين وهين، ولين ولين، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات، والميت من لم يمت.
المسألة الثانية: ذكر المفسرون فيه وجوهاً:
أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني: يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث: يخرج الحيوان من النطفة، والطير من البيضة وبالعكس والرابع: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس، والنخلة من النواة وبالعكس، قال القفّال رحمه الله: والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعل قبل ذلك ميتة فقال: {يحيي الأرض بعد موتها} [الروم: 19] وقال: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] وقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28].
أما قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} ففيه وجوه:
الأول: أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني: ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود، بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال: فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة، ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان: عنده مال لا يحصى والثالث: ترزق من تشاء بغير حساب، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب، وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى: إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم، والله أعلم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10